بيد أن روسيا، التي تجد نفسها على خطّ تماس في عدد من الصراعات في الشرق الأوسط وأوروبا، اصطدمت، في السنوات الماضية، بواقع أن فصل إسرائيل عن المنظومة الغربية، التي تشكّل الأولى جزءاً عضوياً منها، وعن النظام الدولي القائم الذي تقول موسكو إنها تسعى إلى استبداله، غير ممكن عملياً، ما أدى، في غير محطة، إلى خلق تصدّعات غير مسبوقة في العلاقات الروسية - الإسرائيلية، ولا سيما على ضوء حربي أوكرانيا وغزة، وإن كانت روسيا تسعى، باستمرار، إلى محاولة «احتواء» الأضرار. ويعدّ إحدى أبرز تلك المحطّات، إعلان وزارة العدل الروسية، عام 2022، نيّتها «حلّ الوكالة اليهودية» في روسيا، ورفعها دعوى قضائية ضدّها، بذريعة انتهاكها القوانين الروسية، عبر «جمع وتخزين ونقل بيانات عن المواطنين الروس» بشكل ينتهك خصوصياتهم، جنباً إلى جنب «تشجيع الهجرة إلى إسرائيل». وكانت المديرة التنفيذية للوكالة، أميرة أخرونوفيتش، قد اعتبرت، في وقت سابق، أن «أزمة اللاجئين اليهود الأوكرانيين هي الأكبر منذ الهولوكوست»، في حين عكست المواقف الروسية، وقتذاك، غضب موسكو من الدعم الإسرائيلي لكييف. ورغم ممطالة ممثّلي الوكالة في الدعوى المرفوعة ضدّها، يؤكد سوخوف أنه «تمّ بالفعل تقييد نشاطها إدارياً في روسيا منذ عام 2022»، ما جعلها تعمل تحت ضغط كبير وبنشاط محدود «بعدما استخدمت السلطات القضايا القانونية لإرسال إشارة سياسية إلى إسرائيل». ويَعدّ المصدر نفسه ما تَقدّم مؤشراً على وجود «تشققات في العلاقات، وإن كان لا يعني قطعاً كاملاً لها».
وقبيل اندلاع أزمة الوكالة، كانت العلاقات الإسرائيلية - الروسية تشهد توترات عميقة على خلفية تصريحات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، خلال لقاء مع جهة إعلامية إيطالية في الأول من أيار من عام 2022، حين اعتبر أن لـ«أدولف هتلر دماً نازياً أيضاً»، في إشارة إلى أن كون فولوديمير زيلينسكي يهودياً لا ينفي «وجود عناصر نازية في أوكرانيا». آنذاك، دان وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لابيد، تلك التعليقات، ووصفها بأنها «شنيعة ولا تُغتفر»، فيما أعادت وزارة الخارجية الروسية نشر تعليقات لافروف على وسائل التواصل الاجتماعي، مؤكدةً صحتها. وبعيداً من الحرب الأوكرانية – الروسية، تبنّت كل من روسيا والصين مواقف مناهضة لمشاريع قوانين قدّمتها الولايات المتحدة في الأمم المتحدة لوقف الحرب في غزة، مستخدمتَين حق النقض ضدّها، باعتبار أنها «منحازة» إلى إسرائيل، في حين تبنّت موسكو، في المقابل، صيغة بديلة تشدّد على وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار، ووصول أكبر للمساعدات الإنسانية.
أصبحت العلاقات الإسرائيلية – الروسية «باردة» على ضوء حربي غزة وأوكرانيا
ومع تمسّك موسكو، تاريخياً، ببند «الدولة الفلسطينية»، باعتباره الحلّ الوحيد لـ«تسوية القضية الفلسطينية»، أثارت مواقف حكومة بنيامين نتنياهو، منذ بدء الحرب على غزة، مخاوف المسؤولين الروس؛ إذ وصف لافروف، في وقت سابق مثلاً، التصريحات الإسرائيلية حول عدم «وجود مدنيين في غزة»، بـ«المخيفة»، لافتاً إلى أن غالبية العالم «أشارت إلى أن تصرفات إسرائيل تتعارض مع القانون الإنساني الدولي»، رغم حرصه على تجنّب وصفها بـ«الإرهاب» أو عدّها صورة من صور الإبادة الجماعية التي أجمع خبراء الأمم المتحدة على نيّة ارتكابها. بناءً على ما تقدّم، يرى الخبير الروسي نفسه أنه «بعد بدء الصراع في أوكرانيا وعمليات إسرائيل في غزة، أصبحت العلاقات بين تل أبيب وموسكو باردة وبراغماتية في الوقت عينه، إذ إن الثقة السياسية منخفضة، لكن قنوات الاتصال مستمرة». وفيما يشير إلى أن «انتقاد إسرائيل ربطاً بملفَّي فلسطين وسوريا بات جزءاً من الخطاب الروسي المناهض للغرب»، إلا أن الكرملين يحاول عدم الوصول إلى مرحلة «قطع العلاقات» مع الكيان، وموازنة العلاقات معه ومع إيران بالتوازي، وإن كان من غير الممكن لموسكو «تجاهل السياق العالمي» للتطورات، في إشارة إلى أن روسيا «غير قادرة على الفصل تماماً بين صراعها مع الغرب وعلاقتها مع إسرائيل، في وقت تعدّ فيه الأخيرة جزءاً من البلوك الغربي»، وتحديداً في ملفات من مثل أوكرانيا وإيران وسوريا.
الحرب المحتملة
على ضوء ما تقدّم، وفي خضمّ تصاعد التحذيرات من إمكانية استئناف إسرائيل لحروبها على مختلف الجبهات، بما في ذلك مع إيران، يرى مراقبون، من بينهم سوخوف، أنه «من غير المرجح أن تدخل روسيا في مواجهة عسكرية مباشرة، بل ستعتمد على الديبلوماسية وتهدئة التصعيد عبر الوساطة»، في وقت تحاول فيه الحفاظ على قنوات الاتصال مع جميع الأطراف، بمن فيهم إيران وسوريا وإسرائيل و«حزب الله». وعليه، وفي حال تحقّق السيناريو المشار إليه، من المرجّح أن تعزّز موسكو الجهود الديبلوماسية عبر الأمم المتحدة والأطر الإقليمية، بما فيها «أستانا»، بهدف «منع تورط سوريا وإيران في حرب كبرى، والحفاظ على مصالح روسيا الإقليمية»، وتجنّب المواجهة المباشرة مع إسرائيل. ومن بين أبرز العوامل التي قد تحول دون تدخّل روسيا في أي حرب محتملة، كون معظم مواردها مركّزة حالياً في أوكرانيا، وهو ما كان قد دفعها، بالفعل، إلى الحدّ من صادراتها للأسلحة منذ بداية الحرب. وبالحديث عن إيران، تشير عدد من التحليلات إلى أن الحرب في أوكرانيا «غيّرت» طبيعة العلاقة بين روسيا وإيران بشكل جذري، وزادتها صلابة، خصوصاً مع تقديم طهران دعماً عسكرياً ومالياً لموسكو، ووجود «مصلحة مشتركة بينهما في تحدّي النظام العالمي الذي تقوده واشنطن، والسعي إلى تغييره»، وهو ما لا ينبغي للولايات المتحدة أن تتوقّع تغييراً فيه في المستقبل. ورغم أن التعاون الروسي – الإيراني في المجالات الدفاعية والاقتصادية والسياسية، لا يعكس «تطابقاً كاملاً» في المصالح، خصوصاً مع سعي كلّ طرف إلى نتائج مختلفة، إلا أنّه لم يعد بالإمكان «الفصل» بين الدولتين.
التحوّل الشعبي
خلال زيارة إلى روسيا الصيف الماضي، أبدى أحد الخبراء البارزين الذين أتيحت لـ«الأخبار» فرصة إجراء نقاش معه، استغرابه من الممارسات الإسرائيلية في قطاع غزة، متسائلاً عمّا ترنو إليه إسرائيل بالضبط هناك، فكان الردّ عليه بأن هدف الكيان يتمثّل في احتلال قطاع غزة وتهجير سكانها، وفقاً للخطّة نفسها المرسومة لسائر الأراضي الفلسطينية. آنذاك، قال الخبير إنه لو سمع مثل هذا «التحليل» قبل سنتين، لظنّ القائلين به «مجانين»، أمّا اليوم، فهو أصبح أكثر ميلاً إلى الاقتناع به. وعلى أيّ حال، ليس مستغرَباً ألّا يستثني التغيير الذي طرأ على الرأي العام في أنحاء العالم كافة إزاء الوحشية الإسرائيلية، الخبراء والمواطنين الروس. إذ ورد في تقرير نشره مركز «ليفادا» غير الحكومي الروسي، والرائد في مجال استطلاعات الرأي والأبحاث الاجتماعية، بعد سنة من بدء الحرب، أن غالبية الروس (59%) يعتقدون أن «إسرائيل تمادت، وأن أعمالها العسكرية غير مبرَّرة». وأشار التقرير إلى أن نصف الروس (51%) أصبح لديهم موقف سيّئ تجاه إسرائيل، بزيادة نسبتها 34% مقارنة بعام 2018، فيما ترتفع النسبة المشار إليها إلى 60% في أوساط السكان الذين تفوق أعمارهم الـ55 سنة. في المقابل، يقول 27% من المشاركين إن لديهم موقفاً إيجابياً من الكيان، بانخفاض نسبته 32%، مقارنة بعام 2018.

